
سيمفونية العمل والإبداع
في كل زاوية من قسم صناعة شبابيك الأضرحة الشريفة التابع للعتبة العباسية المقدسة، تتردد أصوات المطارق وخشخشة المعادن في ورش ومعامل القسم المتنوعة، ما يعكس طبيعة العمل اليدوي والإبداعي الذي يقوم به حرفيو هذه الورش، مكونة سيمفونية مبدعة تملأ المكان بالروحانية.
هذه الأصوات ليست مجرد ضجيج عمل يومي، بل هي تجسيد لجهود حثيثة تهدف إلى تحويل المعادن والخشب إلى قطع فنية رائعة تخاطب روح المتأمل قبل عينيه.
عند دخول المرء إلى ورش القسم، يشعر وكأنه دخل إلى خلية نحل متقنة التنظيم؛ حيث يسعى الجميع بروح التعاون والإبداع لتحقيق أهدافهم الابداعية المشتركة.
هنا، ليس العاملون مجرد نجارين أو نقاشين أو حرفيين، بل هم فنانون يعملون بروح عالية تجمع بين مهارة اليد وخشوع القلب، كل قطعة فنية تُصنع هنا هي رسالة حبّ وإحياء لتراث أهل البيت "عليهم السلام".
البدايات والتحول المدهش
كانت البداية متواضعة لوحدة عبارة عن ورشة صغيرة داخل العتبة تُعنى بصيانة وترميم الشبابيك الفضية القديمة والأبواب الفاخرة التي تزدان بها المراقد المقدسة.
لكن ما بدأ كعمل بسيط تحول بفضل توجيهات المتولي الشرعي للعتبة، سماحة السيد أحمد الصافي، إلى مشروع متكامل لصناعة الشبابيك المذهبة والأبواب المزخرفة؛ مكوناً من مجموعة معامل وورش، لتعكس الفخامة والعراقة التي تليق بمقام الأماكن المقدسة، وليدخل العراق بهذا المصنع ولأول مرة سوق صناعة شبابيك الأضرحة عالمياً ولأول مرة.
يستذكر السيد ناظم الغرابي، رئيس القسم، تلك البدايات بتأمل قائلاً: "في البداية، كان هدفنا هو الحفاظ على شبابيك الأضرحة المقدسة بلمساتها التراثية، لكن مع مرور الوقت، اكتشفنا أن لدينا القدرة على صناعة هذه التحف الفنية بأنفسنا".
عندما أُسندت إلى قسم الأضرحة والشبابيك مهمة صناعة شباك خاص بضريح أبي الفضل العباس "عليه السلام" شعرت الإدارة بثقل وعظمة المسؤولية التي تحملتها.
لكنها تجاوزت الشعور بالرهبة، وجعلت منه فرصة لا تُعوض لإبراز مهارات فريق الحرفيين العراقيين وإثبات جدارتهم، ونجحت بهذه المهمة التي كانت بمثابة اختبار حقيقي لقدرتهم على الابتكار وتقديم إبداعات تجاوزت التوقعات.
إبداع هندسي متكامل
العمل في القسم يعتمد على تنسيق دقيق بين شعبه ووحداته المختلفة. هناك وحدة النجارة التي تتعامل مع الخشب بأعلى درجات الحرفية، باستعمال أدوات مثل المطارق، مناشير القطع، وأزميل النجارة.
أما وحدة صياغة المعادن، فتحوِّل الفضة والذهب إلى قطع مذهبة، وتستعمل أدوات مثل: مشاعل اللحام، مطارق السميث، وقوالب التشكيل.
تضيف وحدة النقش على الخشب لمسة فنية تراثية تعكس روح العمارة الإسلامية، واستخدام النقوش العراقية الأصيلة ذات الروحية الاسلامية؛ حيث يستعملون أدوات كأزاميل النقش والمناشير الدقيقة.
يوضح السيد ناظم الغرابي: "نحن نمتلك منظومة عمل متكاملة تبدأ من تصميم الخطط التفصيلية على الورق؛ حيث تمر هذه التصاميم بمراحل تصنيع دقيقة ومختلفة؛ لضمان الجودة والإتقان في كل مرحلة".
وتلعب وحدة الـCNC" " دوراً محورياً في ضبط القياسات والتأكد من دقة الأبعاد، ويعتمد الفنيون فيها على برامج الكمبيوتر الدقيقة وآلات متطورة.
فيما يسهم الخطاطون والمزخرفون بأفكارهم في تحسين التصاميم، باستعمال أدوات مثل: الأقلام الخاصة بالنقش والفراشي الدقيقة، ويصر العاملون في هذا القسم على أنّ: "الجودة ليست مجرد خيار، بل هي فلسفتهم الأساسية".
التحديات لم تمنع النجاح
رغم الإنجازات الكبيرة، تواجه القسم تحديات جمة، أبرزها ضيق الوقت ونقص المواد الأولية، يوضح السيد ناظم الغرابي: "نحن نركز على النوعية وليس الكمية، فكل قطعة تتطلب دراسة متأنية وتنفيذاً دقيقاً، مما يستغرق منا وقتاً طويلاً".
ومع ارتفاع أسعار المواد الخام، يظل القسم ملتزماً بتقديم عمل يليق بالعتبات والمزارات والمقامات المقدسة، وتُستورد هذه المواد من مناشئ عالمية رصينة، مما يستلزم وقتاً وتكاليف باهظة.
ويضيف محمد عبد الرضا، أحد النجارين المخضرمين في القسم: "نتعامل مع أخشاب خاصة مثل: ساج البورمي، الذي يتأثر بالرطوبة والتغيرات المناخية، هذا يتطلب منا دقة متناهية واهتماماً بالتفاصيل؛ لتجنب أي تشوهات".
العاملون يتحدثون
محمد عباس عبد، مصمم ومبرمج CNC، يعبر عن شغفه بالعمل في القسم قائلاً: "عندما عملت على تصميم شباك العقيلة زينب "عليها السلام" شعرت وكأنني أقترب من الله تعالى، هذا العمل يعطينا شعوراً عميقاً بالفخر والمسؤولية".
وفي زاوية أخرى من الورشة، يقف المهندس حسام محمد جواد ذيبان، معاون رئيس القسم، متذكراً التحديات التي واجهها الفريق أثناء صناعة شباك أبي الفضل العباس "عليه السلام". يقول حسام: "صناعة هذا الشباك كانت البداية الحقيقية لنا، فرغم الصعوبات الكبيرة، تحول العمل الى رمز لإبداع الحرفيين العراقيين وشهادة على تفاني العاملين وإخلاصهم".
مشاريع مُلهمة
لم تتوقف إنجازات القسم عند العتبات المقدسة داخل العراق، بل امتدت لتشمل نجاحاً كبيراً في تصدير شباك ضريح السيدة زينب "عليه السلام" إلى سوريا، مما يعكس براعة الحرفيين العراقيين وقدرتهم على التميز خارج الحدود.
فيما شملت الأعمال المحلية إنجاز الشبابيك الخاصة بأضرحة الامام العباس "عليه السلام" وصافي صفا، والشيخ المفيد، والطوسي، والامام القاسم "عليه السلام" ومقام الحجة "عجّل الله تعالى فرجه الشريف" وواجهة شباك العتبة العلوية، وأعمال أخرى.
شهود على الإبداع
يقف الزائرون مبهورين أمام روعة الأضرحة المقدسة المزينة بالذهب والفضة والزجاج اللامع؛ حيث تعكس الأضواء تفاصيل الفنون البديعة التي تزين المكان.
لا يمكن لكل من يزور المكان إلا أن يقف لبرهة، متأملاً الأعمال الفنية الرائعة التي تجعل القلوب تنبض بالشعور بالروحانية والفخر.
يعبر أبو محمد المياحي، زائر من جنوب العراق، عن إعجابه قائلاً: "رؤية هذه الأعمال عراقياً تجعلنا نفتخر بمن أنجزها، إنها تجسيد للإبداع والمهارة التي يمتلكها أبناء هذا الوطن".
بينما يعتقد محمد كريم، وهو زائر آخر، وعيناه تتجولان بين النقوش والزخارف المتقنة أن الجمال والدقة في التصاميم تجعل الزائر يشعر بالروحانية، فكأن القطع تتحدث عن حبها لأهل البيت (عليهم السلام).
ويقول: "الوقوف هنا يمنحك شعوراً خاصاً، كأنك تلامس روحانيات المكان بروحك وقلبك".
رؤية طموحة
القسم يملك رؤية مستقبلية طموحة؛ حيث يخطط لتوسيع نطاق عمله ليشمل تطوير المزيد من المشاريع الفنية داخل وخارج العراق.
وتسعى الإدارة لتعزيز التعاون مع المؤسسات الثقافية والفنية العالمية لتبادل الخبرات والتقنيات الحديثة في صناعة الأضرحة والشبابيك، مما يضمن استمرار التميز والإبداع في هذا المجال.
كما يتطلع القسم لإقامة معارض فنية لعرض أعماله في دول اخرى، لتعريف الجمهور بمدى الروعة والجمال الذي تضيفه هذه التحف الفنية إلى الأماكن المقدسة.
ومن ضمن الخطط المستقبلية أيضاً، التركيز على تدريب الشباب المهتمين بهذا المجال الفني، فالقسم يعمل على تطوير برامج تدريبية شاملة تهدف إلى استقطاب الشبان المهتمين بالفنون الحرفية، وتزويدهم بالمهارات اللازمة ليصبحوا جزءاً من هذا الفريق الرائع.
قصص من داخل الورشة
في إحدى زوايا الورشة، حيث تتداخل أصوات المطارق مع خشخشة المعادن، يروي أحد الحرفيين قصته مع الفن والإبداع قائلاً: "لقد بدأت العمل هنا منذ سنوات عديدة، ولم أكن أتخيل أنني سأصل إلى هذا المستوى من الحرفية والإتقان. أصبحت اليوم أتحكم بكل أداة وكأنها امتداد ليديّ".
العمل في هذا المكان لم يكن بالنسبة له مجرد وظيفة، بل هو شغف وحب يتجدد كل يوم مع كل قطعة جديدة. وأضاف، وعيناه تلمعان بالتأمل: "عندما أنجزت أول قطعة فنية هنا، شعرت بفخر لا يوصف، كل قطعة نصنعها تحمل في طياتها قصة حب وتفانٍ لأهل البيت "عليه السلام" وتراثهم العريق".
وفيما هو يتحدث، ينضم إليه حرفي آخر ليقول: "كلما أبدأ بقطعة جديدة، أشعر وكأنني أكتب صفحة جديدة من تاريخنا، التحديات التي نواجه تجعلنا أكثر إصراراً على تحقيق الإبداع والتميز، فنحن لا نصنع مجرد قطع، نحن نصنع أعمالاً تخلد في ذاكرة الأجيال القادمة".
دعم متواصل من الإدارة
الإدارة العليا للعتبة العباسية المقدسة تواصل دعمها المستمر لهذا القسم الحيوي؛ حيث تعدّه جزءاً لا يتجزأ من رسالة العتبة في الحفاظ على نمط مميز من التراث الإسلامي، وابراز القدرات العراقية في مجال لم يدخلوه من قبل، ومع ذلك أبدعوا فيه.
وهي تقدم كافة الإمكانيات والموارد اللازمة لتعزيز القدرات الفنية والحرفية في القسم، مما يعزز من قدرته على إنتاج أعمال فنية تعكس الجمال والدقة في التفاصيل.