image alt

تجّار مع الحسين عليه السلام

تجّار مع الحسين عليه السلام

يمسك مكنسة ليجمع النفايات في الكيس الذي يحمله بيده الأخرى، يتنقل من زقاق إلى آخر، ومن شارع إلى شارع.

يحاول بأقصى جهده إخفاء معالم وجه بواسطة لفافة الرأس العراقية (اليشماغ) التي يرتديها، وببدلة رجال النظافة البرتقالية.

وما أن يكشف بعض المارة شخصيته، حتى يفر من المكان فرار الهاربين خوفا من تجمهر الناس حوله، ليدفع عنه ما يعيق ما نذر نفسه له.

إنّه الشيخ جعفر الإبراهيمي أحد أبرز طلبة العلوم الدينية في الحوزة العلمية بمدينة النجف الأشرف، الذي آل على نفسه أن يشارك في مراسيم إحياء زيارة الأربعين الخالدة منفردا، عن طريق الانضمام إلى عمال التنظيف المنتشرين في شوارع مدينة كربلاء المقدسة.

وكما يبدو أن الشيخ الإبراهيمي اختار أن يقسم وقته ما بين أعمال التنظيف في النهار، والخطابة في المجالس الحسينية في الليل، في مصداق لعظمة الخدمة الحسينية في زيارة الأربعين الخالدة.

ويحتل الشيخ الإبراهيمي مكانة مرموقة في الأوساط العراقية الشعبية، كونه من خطباء المنبر الحسيني الشريف.

وتنتشر آلاف المواكب الحسينية في داخل مدينة كربلاء المقدسة ومحاور الطرق المؤدية إليها، إذ تعمل تلك المواكب على خدمة الحشود المليونية التي تفد على المدينة سيرا على الاقدام.

ويتولى أفراد تلك المواكب مهامًّا متعددة، ابتداء من إعداد الأطعمة والأشربة، مرورا بتوفير أماكن الاستراحة للسائرين صوب كربلاء المقدسة، وأخيرا وليس آخرا يؤدون أعمال خدمية مثل تنظيف الشوارع وغسل ملابس الزائرين وتقديم الخدمات الطبية والعلاجية.

وليس ببعيد عن الشيخ الإبراهيمي أطال الله سبحانه عمره، يعمل الضابط البحري علي البرغوثي ضمن موكب أحباب الحسين عليه السلام على الطريق الرابط بين مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة.

إذ يتولى البرغوثي مهمة إعداد الطعام الذي يوفره الموكب الحسيني لحشود السائرين إلى كربلاء المقدسة، معلقا، "عنواني كخادم لزوار الإمام الحسين عليه السلام أسمي وأشرف من أي عنوان أو صفة أخرى".

ويضيف، "تشرفت لسنوات في خدمة بلدي كقائد السفن التي تجوب البحار، لكني وجدت في خدمة الزائرين شرفًا أكبر".

ويؤمن البرغوثي أن هذه الخدمة تمثل واجبًا أخلاقيًا، ورسالة عابرة للوظيفة، معلقا، "في حضرة الحسين عليه السلام، كل الرُتب تتلاشى ونبقى نحن وخدمتنا فقط".

ولا يفوتنا شيخ العشيرة (...) الذي رفض ذكر اسمه واسم عشيرته، والذي تنقب بـ (يشماغ) هو الآخر على طريق المشاية، كي يستطيع ان يخدم الزائرين بعمل تدليك لأقدامهم دون يعرفه أحد كي لا يمتنعوا عن خدمته لهم، حين اكتشفه شابٌ من أفراد عشيرته الذي أصر عليه أن يدلك أقدامه، فرفض خجلاً لكبر سن الشيخ، ولكن بعد إلحاحه عليه.. قبل.

وحين تمعن بوجه الشيخ وهو يدلك أقدامه، شاهد أمراً جعله يدرك الى انه هو شيخ عشيرته، إذ كانت عيني الشيخ مميزة رغم كبر سنه، فعرفه من خلالها، فسارع الشاب لسحب قدميه وناداه (عفوا منك شيخنا)!!.

عندها قال الشيخ" "ان لم ترجع قدميك او عرَفت الناس بشخصي، فسأحرمك من امتياز الانتماء للعشيرة".

عندها أدرك الشاب أن لا مفر من تركه يدلك اقدامه كزائرٍ للإمام الحسين عليه السلام يبتغي مرضاته، ورغم ذلك كان الشاب خجلاً وهو يستذكر المكانة الاجتماعية الكبيرة لشيخ عشيرته، وهو يراه بهذا التواضع.

الكل سواسية

"في حضرة الإمام الحسين عليه السلام، لا مكان للكبرياء، ولا لاعتبارات المنصب والمهنة، الكل خدّام، والكل سواسية على درب كربلاء". تلك الكلمات كانت تعبير السيد (ن-ق) الذي يشغل منصبا أمنيًّا رفيعا في إحدى محافظات كردستان العراق.

ويتولى السيد (ن -ق) مع اثنين من أبناءه مهمة غسل ملابس الزوار المشاركين في الزيارة الأربعينية، بعد أن جهّز عددًا من غسالات الملابس الكهربائية للموكب الحسيني الذي يخدم من فيه. 

ويقول: "اخترت أن أقوم بهذه المهمة لكي أساهم في خدمة الزائرين بشكل مختلف، خصوصا أنّ أغلبهم يصل إلى مدينة كربلاء مجهدا وملابسه مليئة بأتربة وغبار الطريق".

ويضيف، "تلك الغسالات تحوي معدات تجفيف مما يسهم في تجهيز ثياب الزائر في دقائق لتعود نظيف وجاهزة للارتداء".

"متجردا من كل شيء، سوى صفة واحدة، خادم الإمام الحسين عليه السلام".

بتلك العبارة يعرّف الأستاذ محمود محمد مدير مكتب بريد مدينة سوسة التونسية نفسه وهو يقف في موكب خدمة حسيني وسط مدينة كربلاء المقدسة.

فالسيد محمود وفد على مدينة كربلاء المقدسة للمشاركة في إحياء زيارة الأربعين، ويشارك في خدمة الزائرين عبر أحد المواكب الحسينية، متوليا مهمة تقديم مياه الشرب للزائرين.

ويقول: "منذ سنوات أحلم بالتواجد في مثل هذه المناسبات المباركة، حتى أكون في خدمة زوار مولانا الإمام الحسين عليه السلام".

لافتا، "تركت مكتبي في تونس، وجئت إلى كربلاء بقلبي وروحي، لأشهد هذا الحدث العظيم".

ويضيف، "ما إن وصلت إلى كربلاء، حتى شعرت بالأمان والسكينة، ورأيت تحسنًا واضحًا على جميع الأصعدة، من تنظيم، وخدمات، وأعجبتني أخلاق العراقيين، وروح التعاون بينهم ".

ويكمل، "في هذه الزيارة يشارك أكثر من عشرين مليون زائر، إلا أن أبرز ما يلفت فيها أنّ جميع الزوار متساوون، فلا نلحظ أي فوارق اجتماعية أو عرقية أو قومية".

مختتما، "هنا وجد الناس جميعهم بدرجة واحدة مهما كانت اعتباراتهم الأخرى".

إلى ذلك.. وفي أحد بيوت كربلاء، تنشغل الدكتورة شروق الناصر، أستاذة جامعية متخصصة في التمريض، في إعداد وجبات شعبية عراقية يومية لخدمة الزائرين.

 قائلة ومشاعر الفخر بادية عليها: "نبدأ التحضير منذ ساعات الفجر، نُعدّ الدولمة والمرق والأرز، ونرسل الوجبات إلى مواكب قريبة تخدم الزائرين القادمين مشيًا على الأقدام".

مشيرة، "الخدمة الحسينية لا تعرف الفوارق بين رجل وامرأة، أستاذ أو ربّة منزل، بل يعتمد الأمر على ما في القلب والخدمة الحسينية لكل الطوائف والأديان".

بدوره وفد السيد رضا غلام علوي من مدينة تبريز مع جمع من تجار المدينة للمشاركة في إحياء زيارة الأربعين أيضا، إلا أنه اختار أن يكون في خدمة الزائرين عبر إعداد المشروبات الباردة.

إذ يقضي الحاج رضا أربعة وعشرين ساعة في أحد المواكب الحسينية بين إعداد العصائر وتقديمها إلى الزائرين.

مشيرا، "هذه الخدمة على الرغم مما نعتقده من أجر وثواب عند الله، إلا أنها في نفس الوقت تهذيبا للنفس ودروسا في التواضع وإذلالا للغرور والتكبر الذين قد يصيب بعض الناس".

ويضيف، "جميع رفاقي هم من وجهاء وتجار مدينة تبريز الآذرية شمال ايران وقد وفدوا للمشاركة في خدمة زوار الإمام الحسين عليه السلام".

مبينا، "تركنا جميع مصالحنا من المال والعيال قاصدين تجارة لا تبور أبدا، إنها تجارة مع الحسين عليه السلام".

مختتما، "نحن هنا نعمل على مساعدة الصغير والكبير والغني والفقير والصحيح والمريض، والعربي والإيراني دون تمييز أو فوارق اجتماعية أو عنصرية".