image alt

على قارعة الأربعين... خدمات صغيرة بمغزى كبير

على قارعة الأربعين... خدمات صغيرة بمغزى كبير

لا ينطبق عليه وصف الموكب، نسبة إلى الخدمة المتواضعة جدا التي يقدمها.

فعلى قدر المستوى المعيشي البسيط الذي تعيشه عائلة أبي إحسان، قررت أن تشارك في زيارة الأربعين عبر تقديم ما تيسر لها من اللبن والماء إلى السائرين صوب عتبات كربلاء المقدسة.

ذلك القدر اليسير من اللبن والماء كان مفعم بمشاعر إيمانية كبيرة، تنطلق من نفوس بالغة الطيبة وجدت في محبة أبي الأحرار عليه السلام ضالتها المنشودة.

عائلة الحاج أبي إحسان تقطن على مشارف طريق النجف الأشرف – كربلاء المقدسة، حيث يقصد ملايين الزوار سيرا على الأقدام مرقد الإمام الحسين عليه السلام.

يتناوب الأب ووالدته العجوز إلى جانب زوجته وولده الوحيد، على تقديم اللبن والماء البارد للزوار، في تقليد يتبعه منذ أكثر من عشر سنوات على التوالي.

مشاعر التعاطف كانت تتجلى من قبل الزائرين، معظمهم يـُقبل على شرب ما يقدم إليهم ليس ظمأً، بل إكراما لتلك العائلة، التي تواصل الليل بالنهار على قارعة الطريق مفترشة الأرض لتقدم ما تيسر لها من خدمة.

يقول أبو إحسان: "قد لا أجاري في خدمتي ما تبذله المواكب الحسينية الخدمية التي على الطريق".

ويضيف، "ولكن آليت ألّا أن أكون في خدمة زوار الإمام الحسين عليه السلام".

مستدركًا، "قررنا أنا ووالدتي وزوجتي بذل هذه الخدمة البسيطة للمشاركة أسوة ببقية العراقيين في إحياء هذه المناسبة العظيمة".

وتُعدّ زيارة الأربعين أضخم التجمعات البشرية في العالم، إذ يحيي المسلمون ذكرى مرور أربعين يومًا على استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام في واقعة الطف الشهيرة التي وقعت على ثرى أرض كربلاء المقدسة عام 61 للهجرة.

وعلى امتداد مئات الكيلومترات عبر المحافظات الجنوبية والوسطى والشمالية مروراً بالعاصمة بغداد وغيرها من المدن، تنتشر عشرات الآلاف من المواكب الحسينية، إلى جانب المساجد والحسينيات لتقديم الخدمات على مدار الساعة للزائرين السائرين صوب مدينة كربلاء المقدسة.

أمّا خدمات المواكب فهي تتنوع بين تقديم الطعام والشراب، وإعطاء النصائح، وتوفير الإسعافات الأولية، وتهيئة أماكن للراحة، إلى جانب التوجيه المروري وتوفير المعلومات للزائرين.

وعلى غرار عائلة أبي إحسان تنتشر كثير من العوائل التي اختارت أن تساهم في إحياء زيارة الأربعين عبر تقديم خدمات صغيرة للزائرين، فعلى سبيل المثال، قرّر سيف وأخوه منتظر أن يجلسا على قارعة طريق الزائرين لتقديم أقداح الماء البارد بشكل منفرد لمزاحمة المواكب الحسينية الأخرى في تقديم الخدمات.

فيقول سيف الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما: "في السنوات الماضية كنت أخدم في أحد المواكب التي تقع على الشارع الرئيسي".

مستدركا، "لاحظتُ أنّ هناك زوار يأتون من الشارع الفرعي، فراودتني فكرة أن أقدّم ماء الشرب لهم ويكون لي السبق في ذلك".

ويكمل، "فاتحتُ أبي في الأمر ووافق على أن يهديني ثمن أقداح المياه المعدنية بثواب الإمام الحسين عليه السلام".

ويختتم بابتسامه بريئة، "إن شاء الله في المستقبل أسس موكبًا كبيرًا في هذا المكان".


مواكب سرية

وفي قلب هذه المشاهد، تبرز صور النساء الكبيرات في السن، اللاتي قضين سنوات طويلة يخدمن الزائرين، يحملن على رؤوسهن الأطباق وأوعية الطعام الساخن، أو يجلسن بطمأنينة بين خيامهن على مقاعد صغيرة، يرحبن بالزوار دون كلل أو ملل.

تشير الحاجة أم الحسن ذو 65 عامًا، إلى أنّها تخدم زوار الأربعين منذ نعومة أظفارها، عندما كانت الحكومة الاستبدادية السابقة تعتقل كل من يخدم ويقدم المأكل والمشرب للزائرين.

فتقول: "كنا نخدم بالخفاء والآن بالعلن، نجود بكل ما نملك للزائرين ونقدّم جميع المأكولات والمشروبات على اختلاف أنواعها".

وتضيف، "كنت وبعض نساء القرية نواري عن الأنظار أكواب الماء أو اللبن أو بعض صحون التمر تحت العباءة التي كنا نرتديها خوفًا من أن يشاهدها البعثيون".

وتتابع، "كثير من الزوار الذين كانوا يتسللون عبر الطرق الفرعية والبساتين يعرفوننا ويتوقعون وجودنا لتقديم الماء والطعام إليهم".

وتكمل، "ولّت تلك الأيام السوداء وأصبح زوار الامام الحسين عليه السلام بالملايين يسيرون علانية دون خوف".

وتستدرك، "بقيت كما أنا أحمل بيدي سلة التمر وجرة اللبن وسأستمر على هذا الحال حتى يتوفّاني ربي".

بدورها تفترش السيدة أمل عبد الحسن جانب الرصيف في الطريق القادم من العاصمة بغداد إلى مدينة كربلاء المقدسة مع ولديها الصغيرين.

كان ولداها يحملان بأكف أيديها الصغيرة سلتين تحويان تمرًا طازجا، كانت السيدة أمل قد جنته قبل سويعات من بعض نخيل بستانها غير البعيد عن الطريق.

مبينة، "أقطف ثمار التمر وأضعه في السلال لتقديمه إلى الزوار وهم في طريقهم إلى كربلاء المقدسة".

مضيفة، "يتولّى ولداي مهمة تقديم التمر إلى الزائرين في حين أجلس أراقبهما عن كثب حتى ينتهيان".

موضحة، "نعاود الكرة يوميًا حتى انتهاء تدفق الزائرين".

وتشير السيدة أمل، "قبل سنوات كان زوجي هو من يتولى هذه الخدمة إلّا أنّه انتقل إلى رحمة الله منذ ثلاث سنوات، فقررتُ أن يرث ولداي هذه الخدمة".