
بين حشود المعزين السائرين على طريق (يا حسين) عليه السلام، تختلط صور الوجوه بعبق الحزن والأمل.
من بين الحشود يبرز أحمد ذو العقد الثالث، وهو يحمل على ظهره صورةً لصديقه علي أموري، الذي استشهد دفاعاً عن الوطن في وجه عصابات داعش التكفيرية.
الصورة المعلقة فوق حقيبة مهترئة على ظهر رجلٍ ينحني من ألم الفراق، لكن قلب أحمد لا يحني رأسه أمام هذه الوجوه، بل يرفعها إلى سماءٍ يعلم انها أقوى من الرصاص والدموع.
كان اللقاء الأخير بين أحمد وعلي عند ظهور أولى نذائر الحرب، دار بينهما حديثاً صادماً في وقت بالغ الحساسية، "أحمد هاي السنة نروح مشاية؟" سأل علي، وهو يبتسم كمن يبحث عن قافلة أمل وسط الظلام.
رد أحمد بنبرة تخلو من التردد، "إذا خلّصت الحرب ورجعنا سالمين".
ثم جاء سؤال آخر اكثر وقعا، "وإذا ما رجعنا؟".. كان علي يضغط كفه على كتفه، يهمس بنبرة حازمة، "لا تحجي، هل كلام؟".
"توعدني بشي؟ إذا استشهد واحد منا الثاني يمشي نيابة عنه كل سنة؟"
ابتسم علي، ووعد أحمد نفس العهد الذي قطعه علي على نفسه.
علي أموري، كما يحفظه أحمد في ذاكرته، كان بطلاً منذ نعومة أظفاره. وُلد في 1995، فكان أثره في الحياة كنبعٍ يروي من حوله بالحنان والطاعة والهمة.
لم تكن الشهادة من باب الصدفة، بل من باب الطاعة والإخلاص.
بدأ علي عمله في سن مبكرة ليمدّ والده بعونٍ في مواجهة أعباء الحياة، وكان بين زحمة العمل يترك ضحكته تضيء البيت، وتنسج حوله حكاياتٍ من ودٍ وخُلُقٍ لا ينسى.
كان أحمد يروي للآخرين، أثناء السير إلى كربلاء، حكايات علي كأنها لحنٌ يتجدد مع كل خطوة.
يحكي عن شجاعة صديقه، وعن لحظاتٍ ضاحكة عاشاها معًا، وكيف كان علي يبتسم في وجه الصعوبات، مُؤمِناً بأن الوطن يستحق كل تضحية.
قصتهما أصبحت كما لو أنها نبراسٌ لآخرين ساروا في الطريق نفسه نحو العتبات المقدسة، يبعثون برسالةٍ مفادها أن الفرح ليس بعيداً عن الحزن، وأن الوفاء يمكن أن يكون أقوى من الرصاص.
حين اقترب أحمد من كربلاء، امتزج الحزن بالفخر، كانت عيناه تلمعان بالدموع وهو يرى علي يسير معه في روحه، ليس بجسدٍ موجود فحسب، بل بروحه التي تراقبه من فوق.
عند وصوله إلى الضريح الشريف، وقف محدقاً بسكينة التي لا تخترقها سوى دموع المحبّة، ورفع يديه بالدعاء.
كان يحس أن ذكرى علي تتراءى معه في كل خطوة، وأن روحه تعانقه من بعيد.
قرر أن يهدي كل خطوةٍ من خطواته إلى روح صديقه، عربون وفاءٍ لا يمحوّه الزمن.
ولأن الحياة لا تقف عند الألم، فإن والد علي أموري كان يروى قصته يومياً كمن يكتب على جدار الحنين، "كنت أتمنى له حياةً سعيدة، كأن الحياة كُتبت له ليكون سنداً وبهجة قلب والديه."
يروي عن طفولته التي لم تتوقف عند حدود، وكيف أن علياً كان الابن الذي يثمر العطاء في كل يوم، من طفولته المبكرة حين ذهب إلى العمل لمساندة الوالد، إلى لحظاتٍ يبتسم فيها الطفل الذي يتوق لسنواتٍ من الفرح رغم قسوة الواقع.
كان القرار أن ينطلق علي إلى ميدان الجهاد، دون أن يتردد، تلبية لفتوى الدفاع الكفائي، وقلَب الأب مطمئناً إلى قدره الذي كتبه له القدر نفسه، لا تردد ولا رجوع.
وعندما تلقى نبأ شهادته، تحول الحزن إلى صلاة على روح علي، وبدأ أحمد يرفع خطواته إلى كربلاء كأنها صلاة لا تنتهي، يلبسها كعباءة وفاءٍ لا تذوي.
زيارة الأربعين تمثل مرور أربعين يوماً من استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة وبوافق أيضاً يوم إرجاع رأسه الشريف ورؤوس أهل بيته وأصحابه إلى اجسادها من قبل الامام السجاد عليه السلام..
وهو أيضاً يوم يتزامن مع وصول الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء، كأول من زار القبر الشريف.
وفي هذا اليوم يعود أهل البيت عليهم السلام من الشام إلى كربلاء، فيلتقون جابر مجدداً، هكذا تبدأ الزيارة الأربعينية، يوم يعبر فيه الزائر عن وفاءٍ يتصل بدم الحسين عليه السلام ودماء من ساروا خلفه.
وتقول الرواية بأن جابر الأنصاري وقف على القبر الشريف باكياً، وهو يردد، يا حسين ثلاثاً، ثم يؤكد أن هذا الحب ليس بمقابل، إنما هو ميثاقٌ من حبلٍ لا ينقطع.
متأثرا بجابر الانصاري.. يوجه أحمد خطواته إلى العتبات المقدسة، محملاً بروحه وبصورة علي؛ يحكي للناس عن صديقٍ كان أبهى من النور في وجهه، وكيف أن علياً كان يضحك في وجه المصاعب، وكيف أن الوطن يستحق التضحية. يحكي عن وعدٍ قطعه علي، وعن وفاءٍ لا يُمحى، وعن ولدٍ فقده والده، وعن دفء قلبٍ لا يمكن أن يفنى.
في ختام المسيرة، يرفع أحمد يديه بالدعاء، ويهدي كل خطوة من خطواته إلى روح علي أموري، كعربونٍ لوفاءٍ وصفاءٍ بين صديقين افترقا جسداً وبقيا روحاً.
يترك الحشود خلفه، لكن أثر علي يظل حاضراً في كل خطوة من صوت الحنين الذي يرافق كل من يسير في الطريق إلى الإمام الحسين عليه السلام.
هذه ليست مجرد قصة سفر، إنها رسالة وفاء أبدية من صديق إلى صديقه، من جيلٍ يحفظ تاريخ الحروب والصمود إلى جيلٍ يحلم بأن تكون كربلاء رمزاً للصلابة والإيمان بالإنسان وبالوطن.
أحمد يخطو في الطريق إلى كربلاء، حاملاً صورته صورة علي، يثبت أن الوفاء ليس كلمات تقال، بل خطوات تتكرر في كل عام.